الْفَتْحُ عند الصوفية هو انكشاف الحقيقة لعين البصيرة لدى المريد والسالك ضمن مقام الإحسان.
ذكر القرآن كلمة الفتح ضمن العديد من الآيات في قول الله :
الفتح معناه هو إدراك ومعرفة الأسرار الإلهية بما يجعل المريد يرضى بقضاء الله وقدره ويسلم أمره لله .
وهذا الفتح الرباني يكون بشكل يليق بجلال الله الذي من أسمائه الحسنى اسمُ الْفَتَّاحِ الذي يكشف الغمة عن عباده، ويسرع الفرج إليهم، ويرفع الكرب عنهم، ويزيل الضراء عنهم، ويفيض الرحمة عليهم، ويفتح أبواب الرزق لهم.
فالله هو الفتاح العليم، الذي يفتح أبواب الرحمة على عباده، ويسرع إليهم بالفرج والتوسعة وفك المعضلات والمشكلات، لأنه من عرف أن ربه هو الفتاح وثق به في كل أمر، وارتاح إليه في كل مهم، ورجع إليه في كل شيء.
المريد المستقيمُ على أمر الله تجعلُه استقامته يتذوق ويتلذذ بثمرات الفتح على قلبه كنوع من أنواع الواردات التي منها:
بَيَّنَ الإمام ابن عطاء الله السكندري أهمية فتح التعريف على قلوب المريدين، وذلك في حكمته التي نصها:
إِذَا فَتَحَ لَكَ وِجْهَةً مِنَ التَّعَرُّفِ فَلاَ تُبَالِ مَعَهَا أَنْ قَلَّ عَمَلُكَ؛ فَإِنَّهُ مَا فَتَحَهَا لَكَ إِلاَّ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَتَعَرَّفَ إِلَيْكَ، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ التَّعَرُّفَ هُوَ مُورِدُهُ عَلَيْكَ، وَالأَعْمَالَ أَنْتَ مُهْدِيهَا إِلَيْهِ؟ وَأَيْنَ مَا تُهْدِيهِ إِلَيْهِ مِمَّا هُوَ مُورِدُهُ عَلَيْكَ؟ | ||
فعلى خلاف الخوارج الذي يعتمدون على ظاهر الأعمال دون التزام الأدب مع الحق والخَلْقِ، فإن السالكَ السائرَ إلى الله يُهْدِي أورادَ أعمالِه الظاهرةِ إلى مولاه وهو يراعي في ذلك الأدب معه وانتظار القَبول منه.
فإذا فتح الحق باباً من أبوابه للتعرف على المريد المحبوب بأسماء الله الحسنى وصفات الله العليا والتجلي والشهود، فلا يجب أن يتأثر السالك عند ذلك إن قل عمله الحسي، لاشتغاله بعمله المعنوي المرتبط بأنوار التجليات وحقائق الصفات، والأمر هو أن العمل الكثير مع الحجاب قليل، والعمل القليل مع الشهود والكشف كثير.
فهذا الفتح يُرْجِعُ المريد إلى منهج الوسطية والاعتدال بعد فَوْرَةِ وكثرة الأعمال التي تَعْقُبُ التوبة والالتزام والتعبد من بعد مرحلة الغفلة والزيغ والتيه، لأنه في بداية التعريف يشتغل العابد بالمعارف عن الإكثار من نوافل التكليف فتقل رياضاته التعبدية، ولكنه يعود من جديد إلى الازدياد من القربات عند نهاية مرحلة التعريف.
وإذا كانت جهة هذا التعرف كالأمراض والبلايا والفاقات، فإنها سبب لمعرفة الله بصفاته كاللطف والقهر وغيرهما، والمريدُ المخاطَبُ بذلك هو المتيقِّظُ دون المرتبِكِ في حبال الغفلة الذي يسخط عند نزولها، ولا شك أن هذا أعظم من كثرة الأعمال التي تطالب بوجود سر الإخلاص فيها.
أَوْضَحَ الإمام ابن عطاء الله السكندري أهمية فتح التفهيم على قلوب السالكين، وذلك في حكمته التي نصها:
مَتَى فَتَحَ لَكَ بَابَ الْفَهْمِ فِى الْمَنْعِ، عَادَ الْمَنْعُ عَيْنَ الْعَطَاءِ | ||
فحينما يفهم المريد الحكمة من الهموم والغموم والمصائب المتنزلة عليه، فإن ذلك يرده إلى مولاه ويصله به، وهي عندئذ عين النعمة التي تصله بالحقائق وتقطعه عن الخلائق، ومن مقتضيات هذا الفهم عن الله وجود الرضا عنه الذي هو جَنَّةٌ مُعَجَّلَةٌ وحالة حسنة، ومفتاح كل خير وبر.
ففتح باب الفهم على المريد ليُدرك معنى المنع كرحمة متنزلة من الله عليه في مصيبته وفاقته هو نعمة جليلة، لأنه لولا علم الله بأن ذلك خير له من العطاء والتوسعة ما أنزل الضر به، فصار بذلك فهم حكمة المنع هو عين العطاء والتفضل على العبد.
شَرَحَ الإمام ابن عطاء الله السكندري أن الفتح بالطاعة دون التزام المفتوح عليه بأدب التواضع قد يكون سببا في عدم قبول عمل السالكين، وذلك في حكمته التي نصها:
رُبَّمَا فَتَحَ لَكَ بَابَ الطَّاعَةِ وَمَا فَتَحَ لَكَ بَابَ الْقَبُولِ، وَرُبَّمَا قَضَى عَلَيْكَ بِالذَّنْبِ فَكَانَ سَبَبًا فِى الْوُصُولِ | ||
فباب الطاعة المفتوح على المريد علما وعملاً وحالا قد يقترن بآفة قادحة تمنع قبولها من الله ، وهذا المانع هو التعزز بحصول العبادات ورؤيتها؛ لأن قبول الأعمال لا يكون إلا بالذل والافتقار وشهود التقصير والانكسار.
وحينما يكون المريد متصفا بهذا التواضع المحمود، فإن الذنب المقضي عليه ظاهرا سوف يكشف له عجزه عن القيام بحق الله ، فيكون هذا الافتقار سببًا في الوصول إلى مرضاة الحق لما يترتب على التواضع من رجوع بالتوبة والإقلاع وموافقة الحق ومخالفة الطباع.
شَرَحَ الإمام ابن عطاء الله السكندري أن ألم وحشة المريد من المخلوقات قد يكون مقدمة لحلاوة الفتح بالأنس بمعية الله ، وذلك في حكمته التي نصها:
مَتَى أَوْحَشَكَ مِنْ خَلْقِهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَفْتَحَ لَكَ بَابَ الأُنْسِ بِهِ | ||
فمتى أوحش اللهُ عبده المريد من مخلوقاته بأن نفّر قلبه من الاستئناس بهم، فليعلم هذا العابد بأن مولاه يريد أن يفتح لك باب الأنس به ليصير له وحده.
وهذا النفور من الاجتماع بالأغيار والركون إليهم قد يفتح للسالك باب الأنس بالله لأن القلب إذا نفر من الخلق تعلق بالحق وأقبل عليه بكليته، ومتى فتح له هذا الباب صيّره من الأحباب وآنسه بالخطاب.
فإذا أراد المولى أن يؤنس عبده بذكره، ويتحفه بمعرفته، أوحشه من خلقه وشغله بخدمته، وألهمه ذكره، حتى إذا امتلأ قلبه بالأسرار والأنوار، وتمكن من حلاوة الشهود والاستبصار ردّه إليهم رحمة لهم.
أَوْرَدَ الإمام ابن عطاء الله السكندري بأن المريد عليه أن ينتظر من الله أن يفتح له باب الرجاء والخوف ليعتدل بذلك مزاج وأمر عبادته، وذلك في حكمته التي نصها:
إِذَا أَرَدْتَ أَنْ يَفْتَحَ لَكَ بَابَ الرَّجَاءِ فَاشْهَدْ مَا مِنْهُ إِلَيْكَ، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ يَفْتَحَ لَكَ بَابَ الْخَوْفِ فَاشْهَدْ مَا مِنْكَ إِلَيْهِ | ||
فالرجاء والخوف حالان عن مشاهدتين، فمن أراد أن يفتح له باب الرجاء فليشهد ما من الله إليه من الفضل والكرم والإسعاف والألطاف، وليستحضر في نفسه ماهو واصل منه إليه من جلب المنافع ودفع المضار، فسيغلب عليه حينئذ حال الرجاء، وعدم اليأس من رحمته، ولو مع الوقوع في الذنب.
وإذا غلب على المريد الرجاء، وخاف أن يوقعه ذلك في المخالفات والمعاصي، وأراد أن يُفْتَحَ له باب الخوف، فليشهد ما يبدر ويصدر منه إلى الله من الأخطاء والهفوات وسوء الأدب بين يديه، وأراد أن يفتح لك باب الحزن ليكفه ذلك عن التقصير، فسيغلب عليه حينئذ حال الخوف فيقلع عن مخالفته.
بَيَّنَ الإمام ابن عطاء الله السكندري بأن المريد المفتوح عليه يعاين شهود عظمة الله ، وذلك في حكمته التي نصها:
الْكَائِنُ فِى الْكَوْنِ وَلَمْ تُفْتَحْ لَهُ مَيَادِينُ الْغُيُوبِ مَسْجُونٌ بِمُحِيطَاتِهِ وَمَحْصُورٌ فِى هَيْكَلِ ذَاتِهِ. أَنْتَ مَعَ الأَكْوَانِ مَا لَمْ تَشْهَدْ الْمُكَوِّنَ، فَإِذَا شَهِدْتَهُ كَانَتِ الأَكْوَانُ مَعَكَ | ||
فالمريد باعتباره إنسانا مخلوقا كائنا في الكون، هو موجود في الحياة الدنيا لعبادة خالقه ، فإذا لم تُفْتَحْ ميادين الغيوب على قلبه ليستقبل العلوم والمعارف الشبيهة بالميادين، فإنه يبقى ويظل مُحَاصَرًا وَمُحَاطًا بشهواته ولذاته وترابيته، كما ورد في قول الله :
فإذا كان المريد غافلا مُعْرِضًا عن ربه، ورَاكِنًا مكتفيا بالعلم الظاهر من دنيا الأكوان، فإنه يبقى واقفا مع رسوم العوالم ومستندا إليها، وهي مستبعِدةٌ له ما لم يَشْهَد عظمة الله المكوِّن ، كما ورد في الآية القرآنية الكريمة:
وإذا شهد المريدُ جلالَ مولاه صارت بذلك الأكوانُ خادمةً له، وكان هو مستغنيا عنها ومالكها وهي محتاجة إليه، فيصير بذلك طلب السالك حاصلا، وقوله ناجزا بإذن الله .
يجب على المريد أن يزداد أدبا وتواضعا مع الله حين يتنزل الفتح على قلبه وبصيرته، لأنه لا عبرة بهذا الفتح على السالك إذا لم يظهر عليه سمت العارفين.
ومن أخطر أنواع سوء الأدب التي قد يتورط فيها المفتتن بالفتح عليه، أن يتحجج بإسقاط التكليف الشرعي عنه لأنه وصل إلى مرضاة الله التي ترفع عنه ثقل ومشقة الالتزام بالأحكام الشرعية والمتمثلة في أحكام العبودية من الواجبات والمندوبات والمحرمات والمكروهات والمباحات.
وهذا الزيغ قد وقع فيه المرجئة الذين زعموا أنه لا يلزم بعد المعرفة الوقوف عند حدود الشريعة الإسلامية والالتزام بها، لأنه في زعمهم لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا تنفع مع الكفر طاعة.
وقد بَيَّنَ التابعي سعيد بن جبير خطورة استهتار المريد بطاعته وعبادته بعد بروز وظهور بوادر الفتح عليه، وذلك في قوله:
إِنَّ مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةَ بَعْدَهَا، وَإِنَّ مِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ بَعْدَهَا، فَالزَّيْغُ وَلُودٌ، كَمَا أَنَّ الإِحْسَانَ وَلُودٌ وَدُودٌ | ||
وَأَوْضَحَ التابعي عروة بن الزبير فضيحة تسلسل العيوب والمخالفات التي قد يُعَاقَبُ بمقارفتها والاسترسال فيها المريدُ المبتهجُ بالفتح عليه دون أدب وتواضع منه مع خالقه ، وذلك في قوله:
كثير من العلماء المسلمين ألفوا كتبا افتتحوا عناوينها بكلمات الفتح والفتوح والفتوحات، وذلك للتدليل على المنن والرحمات الربانية المتنزلة عليهم، منها:
This article uses material from the Wikipedia العربية article فتح (تصوف), which is released under the Creative Commons Attribution-ShareAlike 3.0 license ("CC BY-SA 3.0"); additional terms may apply (view authors). المحتوى متاح وفق CC BY-SA 4.0 ما لم يرد خلاف ذلك. Images, videos and audio are available under their respective licenses.
®Wikipedia is a registered trademark of the Wiki Foundation, Inc. Wiki العربية (DUHOCTRUNGQUOC.VN) is an independent company and has no affiliation with Wiki Foundation.